ترك عندي قميصه القديم ثم قال لي أليس لديك سوى هذا القميص الممزق
قصة قصيرة ....!!
........................................................
درسنا في الجامعة معاً وكنا متفوقين في دراستنا وكنا نحلم بأن نساهم في بناء الوطن وخصوصاً مدينة تعز بكل ما نملكه من قدرات أو على الأقل في تعليم أبناءها.
حصل صديقي فهيم على منحة دراسية وأصبح برفسوراً وحينما بدأت ثورة الشباب السلمية علم بظروف البلد فقرر أن لا يعود لليمن وبالفعل حصل على عقد عمل في إحدى الجامعات الأجنبية.
تراسلنا كثيراً .. وكان صديقي فهيم يحاول جاهدا أن يقنعني بفكرة السفر وخصوصاً حينما علم بعدم صرف الحكومة لمرتباتنا ـ ولكني دوماً على النقيض ـ أحاول إقناعه بالعودة إلى اليمن وبالذات إلى تعز التي أصبحت بأمس الحاجة إلى علمه وتخصصه الذي سيسهم في صناعة الحلول أو على الأقل في تعليم شبابها وسيساعدهم في نهضة البلد , ولكنه لم يقتنع , لأنه كان يقول لي أنت تعمل أستاذاً في المعهد ومحاضراً في أكثر من جامعة وتشارك في المبادرات الشبابية والندوات الثقافية , فما الذي تغير في حياتك وفي حياة الناس.!!
وفجأة وقبل أسبوع اتصل بي وفاجأني بأنه في تعز ففرحت كثيرا تقابلنا وعزمته على الغداء عندي وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث وكان ينتقد كل شيء ويقول بأن هذه البلد لا يمكن أن يصلح حالها .....الخ , فقلت له كأني بك لن تستقر في تعز , فقال لا والف لا , ولا في اليمن كلها , ثم قال وهل أنا مجنون مثلك , ثم قررنا بعد العصر أن نخرج مشياً على الأقدام في شوارع المدينة كما كنا نعمل أيام دراستنا الجامعية لنعيد الذكريات الجميلة.
غيرت ملابسي وارتديتُ قميصه القديم الذي نساهُ عندي في أخر يوم على سفره وارتديت عليه جاكيتاً لأخفي تحته ذلك القميص وكلما مررنا على شارعٍ من الشوارع المدمرة أقول له تعال نقف هناك لنأخذ صورة تذكارية فيقول لي قف وأنا سألتقط لك الصورة , أما أنا فيكفيني أن أشاهد الدمار ولا أريد أن أتذكره بعد سفري مجدداً , وهكذا في كل شارع تتكرر الحكاية.
جلسنا في إحدى الأماكن التي كنا نجلس فيها في الماضي لشرب الشاي , فشربت الشاي وهو ساخن وأخذت أدخن , حتى دخنت خمس سجائر متتالية دفعة واحدة من أجل أن ترتفع درجة حرارتي من أجل أن أنزع جاكتي تحت مبرر شعوري بدفئ الجو , وحينما نزعت جاكتي نظر إلى القميص وقال لي ما هذا القميص القديم الممزق ارتدي جاكيتك سريعاً الناس ينظرون إليك بغرابة فنفذت له رغبته ثم انطلقنا لنكمل سيرنا في شوارع المدينة , وعندما مررنا بجوار أحد المعارض لبيع الملابس دخل إليه وامسك بيدي لأدخل معه , ثم قال للبائع اعطني خمسة بدلات جديدة على مقاسي وخمسة بدلات جديدة على مقاس الأخ ـ دخلنا غرفة القياس , وعندما انتهينا من القياس قال لي ماذا تفعل ـ فقلت له أرتدي قميصي ـ فقال لماذا لا ترتدي أحد القمصان الجديدة ـ فقلت له ـ لدي الكثير من القمصان الأكثر أناقة من كل هذه القمصان التي اشتريتها ولكني أحب هذا القميص الممزق ولم اغسله منذُ عشرين عاماً ولم أرتديه منذُ عشرين عاماً غير هذا اليوم وأنا معك , ليس لأنني أريد منك أن تشتري لي قمصاناً جديدة , ولا اقصد بكلامي هذا أني أرفض هديتك , بل قبلتها ولن أرتديهم وسأحتفظ بهم حتى نتقابل معاً من جديد بعد أن تعود من السفر ذات يوم في المرة المقبلة , فقال لي ما بك تتحدث بأسلوب الألغاز فقلت له حينما نعود إلى البيت سأحدثك , فقال لي ولكن كل أدواتي في الفندق , فقلت له لا عليك غداً ستذهب للفندق أما الليلة ستنام عندي في البيت ولا يوجد أمامك خياراً في هذا.
عدنا إلى البيت , ثم قلت له سأحضر لك ملابساً لتغير ملابسك , فقال لي لا داعي سأنام بملابسي هذه وغداً سأرتدي من الملابس الجديدة التي إشتريناها معاً , فقلت له لا يا صديقي فهيم يجب أن تغير ملابسك , فجئته ببنطلون قديم عمره عشرين سنة أيضاً مع نفس القميص الممزق الذي كنت ارتديه وقلت له سترتدي هذه الثياب لكي تنام بها وفي الصباح اتركها وارتدي ما شئت من الملابس الجديدة , فقال لي ما قصتك أنت والملابس القديمة وخصوصاً هذا القميص الممزق , فقلت له قبل عشرين عام نام عندي صديقي وسافر في اليوم التالي وترك هذه البدلة عندي ولكني لم أفرط بها واحتفطت بها طوال هذه السنين دون أن اغسلها , لأن رائحة صديقي العزيز عليها , بل فيها تتخالط مع كل خيطٍ في نسيجها الممزق.
تركته يغير ملابسه وبالفعل إرتدى تلك البدلة القديمة , ورجعت إليه وفي يدي صورة قديمة أنظر إليها ـ ثم أنظر إليه وفي عيني دمعتين تقفان على أهدابها , فقال لي اعطني هذه الصورة التي تشاهدها وعيناك تريد أن تبكيان ـ أعطيته الصورة ـ ثم نظر إليها وقال هههههههههههههههه هذا أنا , فقلت له نعم وبنفس هذا البنطلون والقميص الممزق الذي ترتديه الآن.
صمت قليلا , ثم قال أيام جميلة , وقال هل تذكر وهل تذكر ..... الخ ـ فقلت له مقاطعاً هل تذكر أنت حلمنا القديم , فقال لي أي حلم ـ قلت له , الإسهام في بناء الوطن وخصوصاً تعز , وإذا لم تتاح لنا الفرصة المناسبة سنكتفي بتعليم الشباب الذين سيسهمون هم ذات يوم في بناء الوطن , وأسفاه بلادنا كالأم التي حملت وأرضعت وربت وعلمت وحينما أصبحت في أمس الحاجة لأبناءها تركوها وحيدةً ليعيشوا مع الجميلات ـ فقال لي برغم علمك وثقافتك إلا أنك تعيش في كلماتك التي تكتبها شعراً ونثراً وترفض العيش في الواقع , فقلت له ستظل صديقي العزيز برغم أن لك طريقاً مختلفاً عن الطريق الذي أمضي فيه ولا يمكن أن أغيره ـ فأنا أريد أن أصنع التغيير في بلدي وليس في مكان أخر , ثم تركته ينام.
وفي صبيحة اليوم التالي دخل الحمام واغتسل وارتدى إحدى بدلاته الجديدة وأخذ يرتب البدلة القديمة بقميصها الممزق فقلت له ماذا تفعل يا فهيم يا صديقي ـ فقال أريد أن أخذها معي أليست لي ونسيتها عندك قبل عشرين عاماً واحتفطت بها , والآن من حقي أن آخذها , فقلت له لا يا صديقي ليس من حقك أخذها , فقال لماذا , فقلت له من حقك أن تأخذ جميع البدلات والهدايا التي اشتريتها لي , ولكن ليس من حقك أن تأخذ هذا البنطلون القديم وهذا القميص الممزق , فقال لماذا ترفض الهدايا , فقلت له لا أرفضها ولكني أؤكد لك تمسكي بالبنطلون القديم والقميص الممزق أكثر من هذه الهدايا , فقال لي هل يمكنك أن توضح ما السبب , فقلت له هناك سببين يا صديقي
السبب الأول ...
من ينسى أشياءه القديمة ولا يتذكرها , وحين يراها لم يكتفي بعجزه عن تذكرها , بل أخذ يعيبها ويستحي منها لأنها ما عادت تتناسب مع مقامه حالياً , ليس من حقه إستعادتها لأنها من حق من حافظ عليها ويعتز بها برغم كل ما بها , وهكذا اليمن , فأنت لا فرق بينك وبين حكومة الشرعية تنتظر من الناس الدفاع والحفاظ على البلد وإعادت الإستقرار فيها كي تعود لتحكم الناس لأنها تملك الشرعية.
والسبب الثاني ...
أني لا أريد نسيانك ولا أريد أن أفقدك بسبب تغيرك المخيب لي ولأمك اليمن , وأريد أن احتفظ لك بذهني بنفس الصورة القديمة على أمل أن تعود ذات يوم , فصمت صديقي فهيم وترك البنطلون القديم والقميص الممزق وأخذ أشياؤه الجديدة وهم بالخروج وانطلقت معه حتى صعد على التاكس بعد أن صافحته وعانقته مودعاً , وحين كان على مقعده في التاكس كنت أنا واقفاً والدمعتين تقفان على جفني ولم اسمح لهما بالخروج كبرياءً و اقول له إلى اللقاء قريباً وصديقي فهيم يلوح لي بيده متبسماً , وكأنه يقول وداعاً , فانطلق التاكس حتى غاب عن ناظري من جديد.
بقلم أ.هشام ذياب المصعدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق