القوي الأمين ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى في محكم آياته على لسان ابنة شعيب (( قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)) ـ سورة القصص الآية رقم 26
أولاً القصة التي قيلت فيها هذه الآية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما خرج نبي الله وكليمه موسى عليه السلام إلى أرض مدين توقف بجوار بئر تغطيه حجر ضخمة ولا يقوى على تحريكه غير عصبة من الرجال الأشداء للحصلوا على الماء من تلك البئر ـ وكانت هنالك فتاتين تقفان بعيداً لا تستطيعان جلب الماء لتسقيان ماشيتهما بسبب زحمة الرعيان على البئر وبسبب ذلك الحجر الذي تغطى به البئر فسقى لهما نبي الله وكليمه موسى عليه السلام ثم انصرفتا عائدتين إلى البيت وحدثت إحداهما أباها بما حدث فأرسلها لتحضر ذلك الرجل .. وحين جاءت إليه قالت له إن أبي يطلبك فقال لها لا تمشي أمامي ـ فقالت له لماذا ؟ ـ قال لها أخشى أن تبدي الريح شيئاً من زينتك فأنظر إليك ـ قالت وكيف ستعرف الطريق ـ قال لها سوف أمضي أمامك وإن وجدتِ أني أخطئ في الطريق فارمي لي بحجر كي ترشدينني , وحينما وصلت إلى أباها قالت له كما ورد في كتاب الله العزيز ((يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)) ـ سورة القصص الآية رقم 26 ـ , فقال لها أبوها وكيف عرفتِ أنه قوي أمين , فحدثته بما كان من نبي الله وكليمه موسى عليه السلام عندما رفع الحجر الكبيرة عن البئر بمفرده كدليل على قوته , وحدثتهُ عن ما كان منه في الطريق كدليل على أمانته.
فقال نبي الله شعيب لنبي الله وكليمه موسى عليهما السلام كما ورد في سورة القصص ((قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)))
ثانياً .. الدروس المستفادة ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدروس المستفادة على المستوى الجزئي أو الفردي (الشخصي) ...
هنالك الكثير من الدروس الخاصة على المستوى الفردي (الشخصي) ومن أهم هذه الدروس ما يلي ...
أ ) أهم المواصفات التي حددتها الفتاة فيمن ترغب به شريكاً لحياتها وهذه المواصفات كانت القوي الأمين.
** فالقوي هو الذي سوف يكون حامياً لها من كل الأخطار والمخاطر التي قد تتعرض لها.
** الأمين هو الذي سوف يرعاها وكأنها أمانةً موضوعةً عنده ولن يسمح لنفسه أن يسيء معاملتها تحت أي ظرف.
ب ) اهتمام الأب باختيار الرجل المناسب لابنته حتى ولو كان ذلك سيجعله يخطب لابنته رجلاً رأى فيه بعقله أهم مواصفات الرجل المثالي لتزوجيه ابنته وأحس فيه الصدق بعاطفته, لأن الزواج أمراً عاطفياً عقلياً في نفس الوقت.
ج ) حصول الأب على ضمانات مناسبة ممن سيكون زوجاً لابنته حتى يطمئن على مستقبل ابنته وهذه الضمانات تمثلت فيما يلي ..
** الضمانات المادية ...
((قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) )) وفي هذه الآية أكثر من دليل على تلك الضمانات
... بقاء ابنته مع زوجها بجواره لمدة زمنية طويلة ليتأكد من حسن عشرة زوجها لها قبل أن ينطلق بها للعيش في مناطق أخرى بعيدةً عنه.
... عدم تنازل الأب عن مهر ابنته حتى يؤكد الأب للزوج على مكانة ابنته لديه , فهي ابنته التي يحبها وهي أيضاً تقوم مقام رجل وفتاة في رعاية أباها.
... التأكد من كرم الزوج لأن البخيل زوجاً غير صالح ((عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ)) , وهنا كان تحديد المدة كحد أدنى وحد أقصى كدليل على استكشاف هذا الكرم , لأنه استتبعه بما يؤكد الحفاظ على الود القائم بين الأب وزوج ابنته ((وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ))
** الضمان الأخلاقي أهم من الضمان المادي لأن الضمان المادي مشروط مفروض أما الضمان الأخلاقي اختياري ممنوح فكان رد نبي الله موسى وكليمه عليه السلام ((سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)).
** توثيق الاتفاق بشكل عهد غير مكتوب يحافظ فيه الطرفين على ما جاء فيه بكل دقة , ومن ثم وضعت مؤشرات للدلالة على دقة الالتزام بانعدام إحداها قد يعطي مؤشراً سلبياً , وهذه المؤشرات كالتالي ...
... سرية الاتفاق ((ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ)).
... حصر اختيارية التطبيق والالتزام بالحد الأدنى والأقصى ((أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ)).
... وضع الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى باعتباره مالك الأمر كله ((وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)), من جانب والتأكيد بأن الطرفين يلتزمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى, وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من أتاكم ترضون دينهُ وخلقه فزوجوه)).
2 ـ الدروس المستفادة على المستوى الكلي ((العام))...
القوي الأمين هي أهم المعايير التي يجب أن توضع عند اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب ويتضح ذلك من خلال ما يلي ..
** القوي .. ويقصد بهذه الكلمة قوة الشخصية بكل عناصرها (الجسدية والنفسية والذهنية والعلمية والعملية والأخلاقية) , وهذا يؤكد ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ((المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)) وبالتالي فإن ذلك يتجسد فيما يلي ..
... القوة الجسدية تعني عدم الغياب والتغيب عن العمل بسبب الضعف الجسدي.
... القوة النفسية .. تعني عدم وجود نوازع عدوانية.
... القوة الذهنية .. تعني الفطنة والذكاء من أجل التعامل مع المتغيرات.
... القوة العلمية .. تعني وجود المعارف اللازمة للتطوير.
... القوة العملية .. تعني وجود الخبرات الكافية.
... القوة الأخلاقية .. تعني عدم التفريط عند الوقوع تحت ضغوط متطلبات الحياة أو مغرياتها.
*** الأمين .. ويقصد بهذه الكلمة الحريص المحافظ الذي يستخدم كل عناصر القوة في الحفاظ على ما يقع تحت مسؤوليته من جانب , ويعمل على تنميته بصورة مستمرة من جانب أخر , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته , الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته , والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته , المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤول عن رعيتها))
فأين نحن اليوم من تطبيق هذه القاعدة في حياتنا ((القوي الأمين))
بقلم أ/هشام ذياب المصعدي